سورة آل عمران - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} أي ولدتها إذا هي جارية، والهاء في قوله: {وضعتها} راجعة إلى النذير لا إلى ما ولد لذلك أنث {قَالَتْ} حنة وكانت ترجو أن يكون غلامًا {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} اعتذارًا إلى الله عز وجل: {وَاللَّه أَعْلَم بِمَا وَضَعَتْ} بجزم التاء إخبارًا عن الله عز وجل وهي قراءة العامة وقرأ ابن عامر وأبو بكر ويعقوب وضعت برفع التاء جعلوها من كلام أم مريم {وَلَيْسَ الذَّكَر كَالأنْثَى} في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} ومريم بلغتهم العابدة والخادمة، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن {وَإِنِّي أُعِيذُهَا} أمنعها وأجيرها {بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا} أولادها {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} فالشيطان الطريد اللعين، والرجيم المرمي بالشهب.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب عن الزهري، حدثني سعيد بن المسيب، قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل الصبي صارخا من الشيطان غير مريم وابنها» ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب».


قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي تقبل الله مريم من حنة مكان المحرر، وتقبل بمعنى قبل ورضي، والقبول مصدر قبل يقبل قبولا مثل الولوع والوزوع ولم يأت غير هذه الثلاثة. وقيل: معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} معناه: وأنبتها فنبتت نباتًا حسنًا وقيل هذا مصدر على غير اللفظ وكذلك قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} ومثله شائع كقولك تكلمت كلاما وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي سلك بها طريق السعداء {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} يعني سوَّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} قال أهل الأخبار: أخذت حنة مريم حين ولدتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار، أبناء هرون وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم فقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، عندي خالتها، فقالت له الأحبار: لا نفعل ذلك، فإنها لو تركت لأحق الناس لها لتركت لأمها التي ولدتها لكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلا إلى نهر جار، قال السدي: هو نهر الأردن فألقوا اقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء فصعد فهو أولى بها.
وقيل: كان على كل قلم اسم واحد منهم.
وقيل: كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء فارتز قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر، قاله محمد بن إسحاق وجماعة.
وقيل: جرى قلم زكريا مصعدًا إلى أعلى الماء وجرت أقلامهم بجري الماء.
وقال السدي وجماعة: بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين، وجرت أقلامهم مع جرية الماء فذهب بها الماء فسهمهم وقرعهم زكريا، وكان زكريا رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} قرأ حمزة والكسائي وعاصم بتشديد الفاء فيكون زكريا في محل النصب أي ضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة، وقرأ الآخرون بالتخفيف فيكون زكريا في محل الرفع أي ضمها زكريا إلى نفسه وقام بأمرها، وهو زكريا بن آذن بن مسلم بن صدوق، من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: زكريا مقصورا والآخرون يمدونه.
فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها، بيتا واسترضع لها وقال محمد بن إسحاق ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا في المسجد، وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بالسلم مثل باب الكعبة لا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وأراد بالمحراب الغرفة، والمحراب أشرف المجالس ومقدمها، وكذلك هو من المسجد، ويقال للمسجد أيضا محراب قال المبرد: لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرجة، وقال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها غرفتها {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} أي فاكهة في غير حينها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف {قَالَ يَا مَرْيَم أَنَّى لَكِ هَذَا} قال أبو عبيدة: معناه من أين لك هذا؟ وأنكر بعضهم عليه، وقال: معناه من أي جهة لك هذا؟ لأن {أنى} للسؤال عن الجهة وأين للسؤال عن المكان {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي من قطف الجنة، قال الحسن: حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط، كان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول لها زكريا: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله تكلمت وهي صغيرة {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُق مَنْ يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وقال محمد بن إسحاق: ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها فخرج على بني إسرائيل فقال يا بني إسرائيل: تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل مريم بنت عمران فأيكم يكفلها بعدي؟ قالوا: والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى، فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بدا، فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له: يوسف بن يعقوب وكان ابن عم مريم فحملها، فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه فقالت له: يا يوسف أحسن بالله الظن فإن الله سيرزقنا، فجعل يوسف يرزق بمكانها منه، فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فإذا أدخله عليها في الكنيسة أنماه الله، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق، ليس بقدر ما يأتيها به يوسف، فيقول: يا مريم أنى لك هذا قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
قال أهل الأخبار فلما رأى ذلك زكريا قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولدا في غير حينه من الكبر فطمع في الولد، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد.


قال الله تعالى: {هُنَالِكَ} أي عند ذلك {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فدخل المحراب وأغلق الباب وناجى ربه {قَالَ رَبِّ} أي يا رب {هَبْ لِي} أعطني {مِنْ لَدُنْكَ} أي من عندك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي ولدا مباركًا تقيًا صالحًا رضيًا، والذرية تكون واحدًا وجمعًا ذكرًا وأنثى، وهو هاهنا واحد، بدليل قوله عز وجل: {فهب لي من لدنك وليًا} [5- مريم] وإنما قال: طيبة لتأنيث لفظ الذرية {إِنَّكَ سَمِيع الدُّعَاءِ} أي سامعه، وقيل مجيبه، كقوله تعالى: {إني آمنت بربكم فاسمعون} [25- يس] أي فأجيبوني {فَنَادَتْه الْمَلائِكَةُ} قرأ حمزة والكسائي فناداه بالياء، والآخرون بالتاء، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث لفظ الملائكة وللجمع مع أن الذكور إذا تقدم فعلهم وهم جماعة كان التأنيث فيها أحسن كقوله تعالى: {قالت الأعراب} [14- الحجرات] وعن إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يُذَكِّر الملائكة في القرآن. قال أبو عبيدة: إنما نرى عبد الله اختار ذلك خلافا للمشركين في قولهم الملائكة بنات الله تعالى، وروى الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوها ياءً وذكِّروا القرآن.
وأراد بالملائكة هاهنا: جبريل عليه السلام وحده كقوله تعالى في سورة النحل {ينزل الملائكة} يعني جبريل {بالروح} بالوحي، ويجوز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم: سمعت هذا الخبر من الناس، وإنما سمع من واحد، نظيره قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس} [173- آل عمران] يعني نعيم بن مسعود {إن الناس} يعني أبا سفيان بن حرب، وقال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيسا يجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، وكان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة وقلَّ ما يبعث إلا ومعه جمع، فجرى على ذلك.
قوله تعالى: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أي في المسجد وذلك أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان، فيفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينما هو قائم يصلي في المحراب، يعني في المسجد عند المذبح يصلي، والناس ينتظرون أن يأذن لهم في الدخول فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه، وهو جبريل عليه السلام يا زكريا {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} قرأ ابن عامر وحمزة {إن الله} بكسر الألف على إضمار القول تقديره: فنادته الملائكة فقالت {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} وقرأ الآخرون بالفتح بإيقاع النداء عليه، كأنه قال: فنادته الملائكة بأن الله يبشرك، قرأ حمزة يبشرك وبابه بالتخفيف كل القرآن إلا قوله: {فبم تبشرون} [54- الحجر] فإنهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا في الموضعين وفي سبحان والكهف وعسق ووافق ابن كثير وأبو عمرو في {عسق} والباقون بالتشديد، فمن قرأ بالتشديد فهو من بشر يبشر تبشيرا، وهو أعرب اللغات وأفصحها. دليل التشديد قوله تعالى: {فبشر عباد} [الزمر- 17] {وبشرناه بإسحاق} [112- الصافات] {قالوا بشرناك بالحق} [55- الحجر] وغيرها من الآيات، ومن خفف فهو من بشر يبشر وهي لغة تهامة، وقرأه ابن مسعود رضي الله عنه {بِيَحْيَى} هو اسم لا يُجر لمعرفته وللزائد في أوله مثل يزيد ويعمر، وجمعه يحيون، مثل موسون وعيسون واختلفوا في أنه لم سُمي يحيى؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لأن الله أحيا به عقر أمه، قال قتادة: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وقيل: لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية {مُصَدِّقًا} نصب على الحال {بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني عيسى عليه السلام، سمي عيسى كلمة الله لأن الله تعالى قال له: كن من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان، وقيل: سمي كلمة لأنه يهتدي به كما يهتدى بكلام الله تعالى، وقيل: هي بشارة الله تعالى مريم بعيسى عليه السلام بكلامه على لسان جبريل عليه السلام. وقيل: لأن الله تعالى أخبر الأنبياء بكلامه في كتبه أنه يخلق نبيا بلا أب، فسماه كلمة لحصوله بذلك الوعد. وكان يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه، وكان يحيى عليه السلام أكبر من عيسى بستة أشهر، وكانا ابني الخالة، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام. وقال أبو عبيدة {بكلمة من الله} أي بكتاب من الله وآياته، تقول العرب: أنشدني كلمة فلان أي قصيدته.
قوله تعالى: {وَسَيِّدًا} فعيل من ساد يسود وهو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله، قال المفضل: أراد سيدا في الدين. قال الضحاك: السيد الحسن الخلق. قال سعيد بن جبير: السيد الذي يطيع ربه عز وجل. وقال سعيد بن المسيب: السيد الفقيه العالم، وقال قتادة: سيد في العلم والعبادة والورع، وقيل: الحليم الذي لا يغضبه شيء. قال مجاهد: الكريم على الله تعالى، وقال الضحاك: السيد التقي، قال سفيان الثوري: الذي لا يحسد وقيل: الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير، وقيل: هو القانع بما قسم الله له. وقيل: السخي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سيدكم يا بني سلمة»؟ قالوا: جد بن قيس على أنّا نبخِّله قال: «وأي داء أدوأ من البخل، لكن سيدكم عمرو بن الجموح».
قوله تعالى: {وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} الحصور أصله من الحصر وهو الحبس. والحصور في قول ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة رضي الله عنهم وعطاء والحسن: الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن، وهو على هذا القول فعول بمعنى فاعل يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات وقيل: هو الفقير الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء. قال سعيد بن المسيب: كان له مثل هدبة الثوب وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره. وفيه قول آخر: أن الحصور هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه. واختار قوم هذا القول لوجهين {أحدهما}: لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، و{الثاني}: أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11